الظلمُ إن دام دمّرَ والعدل إن دام عمّرَ، بقلم بابا الحاج. طباعة
الأخبار - مشاركات

العنوان هو مقولة من كتاب استوقفني، كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، للكواكبي رحمه الله، كتاب قيم، أنصح بقراءته لكل غيور حر متحرر،  وأقل ما يقال عن هذا الكتاب أنه فريد من نوعه، عميق المضمون، صالح لكل زمان ومكان، فيه استقرأ باسلوب رفيع سلس واقع مجتمعه في القرن التاسع عشر، فكانت أفكاره واستنتاجاته رحمه الله، تنم عن عمق التحليل والتحكم والإلمام بالمناخ السياسي الذي عايشه. وأظهر بذالك أن طينته لا ترتاح لما قد يغدق عليها الحاكم من ندى العطاء ـ بينما الارض التي هي عليها وما فيهاـ تشكو استبدادا فاقة وحرمانا، بل راحتها في استفاف الترب، وطي على الخمص الحوايا، محترقا منيرا بافكاره العالم المحيط به والغارق في غياهب الظلام.

لقد مر ما يقارب من قرنين على وفاة هذا الكاتب العظيم، لكن ما ترك لنا من افكار ثورية في كتابه، من تأملات  وتشريح للإستبداد والمستبدين هي ملائمة كل الملاءمة لواقعنا، لما نعانيه من سوء التدبر والتدبير على أيدي حكام تملقوا الثورة ومبادئها وصرفوها عن  مسارها الحقيقي، وألبسو الشعب ووحدته الوطنية لباسا براق الشعارات، غير أن من يتفحصه عن قرب يرى بأن بين ثناياه تنتعش وتدب نواياهم القبلية الدنيئة كما يدب القمل في ثوب أفناه التوسل والفاقة.
وذاك ما أدركه رفاق لهم في الدرب منذ الشرارة الأولى للثورة وبالضبط في سنة، 1974، فنبهوا الحكام أنذاك ـ اللجنة التنفيذية ـ  بل طلبوا منهاعقد مؤتمر وطني طارئ، لاستدراك الموقف وتصحيح المسار، وكانت من بين ما ارتكزوا عليه من دوافع، تصرفات بعض القادة التي لا تتماشى مع خط الثورة ومبادئها، تصرفات قبيلة، من بينها استجواب بطريقة همجية بعض الشباب الوافدين للانضمام إلى الثورة، لا لشيء سوى انتمائهم لقبائل ليست من القبائل التي يعرفها أو ينتمي إليها عضو اللجنة التنفيذية الذي اشرف على استجوابهم، والمسؤول عن قطاع الشمال، بل عندما أفرج عنهم والتحقوا برفاقهم، لا حظوا هؤلاء أن آثار التعذيب لا زالت بادية على أجسادهم؛ كما أنهم انتقدوا الاستخدام غير اللائق من طرف القيادة لإمكانيات الثورة القليلة في ذلك العهد، حيث أن مركزا للثوار كاد يموت عطشا، لافتقاره إلى وسيلة لجلب الماء، ولأن السيارة، لاندروفير الوحيدة التي يمتلكها المركز، سافر فيها منذ ثلاثة أيام مسؤول المركز، قطاع الجنوب، ولما حققوا في أمر غيابه، وجدوه عريسا عند فريك من الفركان؛ إلا أن  القشة التي قصمت ظهر البعير، هو الإجراء الذي أقدمت عليه اللجنة التنفيذية، إذ عقدت أجتماعا فيه تم تنحية الولي مصطفى السيد من منصب الامين العام للجبهة، و تعيين رفيقه محمد لمين أحمد بدلا له، قرار اعتبرته اغلبية الشباب غير صائب...هذه المعطيات من بين أخرى لا داعي لذكرها، سوغت للمجموعة المطالبة بعقد مؤتمر طارئ، وأمام رفض اللجنة التنفيذية لطلبهم، فرضوه عليها بالقوة. فعقد المؤتمر الطارئ، واستخدم مبدأ النقد والنقد الذاتي مع كل اعضاء اللجنة التنفيذية، ومن بين ما أصدره المؤتمر من قرارات: إعادة الشهيد الولي إلى منصبه، أي أمينا عاما للجبهة، وانشاء مؤسسة هدفها محاربة الفساد ومراقبة امكانيات الثورة، سموها اللجنة العسكرية للمراقبة، والتي عين رئيسها ونائبه من الشباب الذي كان وراء عقد المؤتمر الطارئ.
كانت اللجنة التنفيدية  قد اعتبرت انعقاد المؤتمر الطارئ وما تعرضوا له من نقد ونقد ذاتي، وانشاء اللجنة العسكرية للمراقبة مسا من صلاحياتها وتهديدا لها، فلم يمض إلا بضعة اشهر حتى تم توقيف واعتقال اعضاء اللجنة العسكرية للمراقبة وكل الشباب الذي كان وراء عملية انعقاد المؤتمر. فزج بهم في السجن، ليصبح هذا الأخير من أول المؤسسات التي شيدت في الثورة. وصار الكذب والافتراء خطابا أتقن الساسة التفنن فيه منذ ذلك اليوم إلى عهدنا هذا.
لقد تم تلفيق اليهم التهمة أنهم جماعة من المندسين والمخربين الذين يعملون لصالح العدو وانهم كانوا يخططون لاغتيال الامين العام للجبهة وإفشال الثورة. الجميع صدق كل ما صرحت به اللجنة التنفيذية و مناصريها وقليلا مما قالته المجموعة المتهمة، الا ان الزمن  والتاريخ كذب ما قالته اللجنة التنفيذية وصدق كل ما قالته المجموعة، مجموعة مات افراد منها في السجن ومن لم يمت قضى سنينا طوالا. والذين أغلبيتهم لا زالوا في الثورة مناضلين بسطاء، وإن فاتحك أحدهم في الموضوع، تعتلي شفتيه ابتسامة حسرة وتهكم مما تم تلفيقه لهم من كذب، فيقول لو كانت نوايانا كما اتهموننا به، من  تخريب للثورة، لما فرضنا على اللجنة التنفيدية إعادة الشهيد الولي الى منصبه إمينا عاما للجبهة، لو كنا قبليين، كما نعتونا لباركنا تنصيبهم لمحمد لمين احمد كامين عام،  كما ان الشباب الذي كان وراء فرض انعقاد المؤتمر الطارئ، لم يكن ينتمي لقبيلة معينة بل لجميع قبائل الصحراء الغربية.  
ومن عايش تلك المرحلة والتي عقبتها يتذكر ذلك المنشور الذي اصدرته اللجنة التنفيذية، والذي عمم في الندوات الوطنية والحامل لعنوان: من يمس من وحدتنا يذبح شعبنا بالدافر، وحقا انهم منذ  البداية ذبحوا شعبنا بالدافر بالكذب وتنكيل وقتل خيىرة شبابه وتهميشه وزجه في السجون ليسهل عليهم الاستمرار في السلطة والحكم، ومن لم تخنه الذاكرة، يتذكر تلك الندوات التي فيها تم عرض شريط  مصور، ظهر فيه اثنان من المتهمين، حيث كل واحد منهما قام بالتعريف بنفسه ثم سرد تاريخه في الثورة، والذي خلاصته أنه مخابر تم تدريبه من طرف الجينرال الدليمي، والمهمة الرئيسية التي عينت له هو محاولة افشال الثورة وقتل أمينها العام. وليفرج عن كلا المتهمين بعد أشهر، ولما سئلا عن حقيقة ما صرحا به في الشريط، قالوا لقد انتزعت منا تلك التصريحات تحت التعذيب، وإن نحن لم نقم بذلك لكان مآلنا مثل رفاقنا ألذين رفضوا الاعتراف بما لفق إليهم من تهم، فتوالت التعذيبات تنهك أجسادهم حتى ادركتهم المنية.
لقد تعود أصحاب الحكم المطلق والذي لم نعرف سواه، على قلب الحقائق وتزوير تضحيات المناضلين الغيورين على مبادئ الاخوة والمساواة والكرامة، الرافضين للظلم  والاستبداد. فلم تمض إلا بضعة سنوات لتتكرر نفس المسرحية مع الشباب الوافد من الجنوب، فكان أن أدرك هذا الاخير ما تمارسه القيادة من جبروت على الشعب، بحكمها المطلق، فرفعوا أصواتهم منددين ومطالبين بالتغيير، ليلقوا نفس ما لقيه رفاقهم في منتصف السبعينات، فسميت حقبتهم بحقبة شبكة مندسي الجنوب، وجز بالمئات منهم في السجون، ومات بعضهم تحت التعذيب، وصُوّرت أشرطة فيها بعضهم، يعترفون بنفس ما اعترف به السابقون، إلاّ أن أحد المعترفين لم يشفع له اعترافه للنجاة من القتل.
وفي هذا الصدد  يقول الكواكبي: الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر وتارك الحق مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المحقق ملحد، والخامل المسكين صالح، ويصبح ـ كذلك ـ النضج فضولا، والغيرة عداوة، والشهامة عتوا، والحمية حماقة، والرحمة مرضا، كما يعتبر النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.
ويتابع معرف المستبد بقوله: المستبد لا يخرج على أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوص، رئيس وأعوان... إن المستبد يحارب طلاب المجد، الساعين للحرية والتقدم، ويقرب المتملقين الذين لا يراعون أيا من قيم الأخلاق وقواعد المروؤة والحمية، وإذا كان طلاب المجد يمتازون بالإقدام والتضحية من أجل الجماعة، شعارهم، أن الشرف لا يصان إلا بالدم، فإن المتمجدين لا يرجى منهم الخير، بل هم المساعدون على جلب الويلات للأمة والشعب... والمتمجدون كالمستبد أعداء للحق والحرية، أنصار للظلم والاستبداد، ومن شروط الانتساب إلى هذه الفئة أن يكون طالب الانتساب خلوا من أية قيم ومبادئ دينية أو أخلاقية... وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر بالأمة على إضرار نفسها تحت منفعتها.
فما تطرقي لتلك الأحداث الأليمة إلا من أجل جعل شبابنا الذي أبصر النور في الثورة وهو اليوم على مشارف الأربعين، أن يعي بعض أسباب ما نتخبط فيه من احباطات وفساد وتسلط، عساه يستقصي الداء ويمدنا بدواء في مستوى ما يتطلع له شعبنا من حرية وكرامة ومساواة، ويعجل من عودته إلى وطنه ملتحما حق الالتحام. وخير ما انهي به هذا التحبير المتواضع ما قاله أحد الأباة لما سألوه: " ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك" فقال: " مأ أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين".

 

Share Link: Share Link: Bookmark Google Yahoo MyWeb Digg Facebook Myspace Reddit