بقلم المصطفى عبد الدائم
عكس أزمنة سياسية أخرى، يكشف الزمن السياسي الصحراوي عن نفسه من خلال إعتماد كلي على وصفة محلية تحتفي بدور الضحية الأبدية، وتشتغل على إطالة عمربكاء مستمر على الأطلال السياسية، وتجتهد "الوصفة الصحراوية" في تنويع مصادرها العلاجية - التي تستهدف بالأساس إعلاء شأن "زمن اللا سياسة" – على الإفراط في تمجيد النواقص ، وتعظيم العلل، وتقوية الاعتلالات والعاهات بما يسهم في استسهال الانحدار السياسي، بل عدم الشعور به والتوهم عكس ذلك أنه الزمن السياسي الأمثل والمطلوب، على الرغم من مخالفته الواضحة والبينة لأصول السياسية وضوابطها .
إن أهم ما يميز الزمن السياسي الصحراوي، هو إحتضانه لهذا الاغتراب السياسي الذي من أبرز تجلياته تغلغل السلطة القبلية ، مقابل انحسار كلي للسلطة التي تعيش حالة من فقدان البوصلة نتيجة تزايد اختراقها من طرف سلطة المال من جهة، ومن جهة أخرى التأثير المتزايد للقوى الخارجية سواء الداعمة أو المعادية بشكل مباشر أو غير مباشر، وأدت هذه العوامل مجتمعة إلى إحداث قطيعة ما بين هذه السلطة والمجتمع . ولابد في هذا السياق أن نؤكد على دور النخب السياسية الصحراوية والتي نتيجة الارتباك الذي أصابها تحت وطاة الانتقال الفجائي من حالة الثورة إلى حالة الدولة - هذا الانتقال ويجب ان نعترف بذلك لم يكن استجابة لتطور الثورة ونضجها، وإنما كان تحت وطأة المأزق القانوني الذي واجه مطلب الاستقلال أمام الأمم المتحدة (فالقانون الدولي لا يعترف باحتلال دولة لشعب ولكن يعترف فقط باحتلال دولة لدولة) –، وهكذا وجدت (أي النخب الصحراوية) نفسها بدل أن تستند إلى منهل أيديولوجي يمكنها من خطاب سياسي - كتعبير ديمقراطي – يحمل إجابات عن أسئلة المستقبل، ويسهم من خلال هذه الإجابات في تشخيص الاعتلالات والاختلالات والانحرافات والأخطاء، ويحول تلك الإجابات من خلال واقعية سياسية إلى حلول وبدائل ممكنة للمعضلات والعراقيل .. أقول أن النخب الصحراوية وجدت نفسها في الحقيقة ونتيجة للمنزلق السابق رهينة تماثل وتطابق غريبين مع السلطة، وأنتجت بفعل ذلك خطابا موغلا في الحماسة السياسية ..خطابا لحظيا حماسيا مضغضغا للمشاعر، مهيجا للجماهير وغالبا ما يكون مشخصنا مع الحرص على قابليته للتسويق، وخضوعه للإطار السياسي العام سيادة الترضية القبلية، والتوافق الجغرافي .
إن النخب الصحراوية وبفعل هذا الارتباك - الناجم عن تخبطها بين " ثورة " يفترض انها تقتلع كل شيء من جذوره، وبين " دولة " تعمل على " تحقيق الممكن " وتسعى الى " الحفاظ على كل شيء قد يسهم في الاستقرار والثبات "، أي أن النخب وجدت نفسها بين " التغيير الجذري " وبين " الانضباط والضبط " – الذي وسمها بالتفكك وأفقدها الادراك السياسي، جعلها ومن خلال تماثلها وتطابقها مع السلطة تعيش حالة من الطغيان المفرط في التفرد، والنفعية الموغلة في الانانية، ومبادلة متمكنة للمصالح والمزايا، مما كون لديها تجمدا عاطفيا سهل عليها التنكر للمصلحة العامة للشعب الصحراوي، والانكى تبلور لديها هذا الاستعداد " ثقافيا وإعلاميا " للدفاع عن كل الأعمال حتى ولو مست سمعة العمل السياسي وجوهره، ناهيك عن ميولها الذاتي إلى ارتكاب نفس الأفعال المرفوضة مجتمعيا، وغالبا احتراف انتهازية سياسية سادت حتى تكاد تصبح عادة معشعشة في العقل السياسي الصحراوي ...
لابد أن أعترف ان ملء كل بياضات الزمن الصحراوي يتطلب عملا أكثر مثابرة، يأخذ بعين الاعتبار أن الفعل السياسي الصحراوي ينمو في بيئة مغلقة، ويتأثر فوق ذلك بتعطيل مستمر للعقل السياسي الصحراوي، في ظل طغيان عقل يمتهن الخداع، ويرتاح للسكون والتقليد، والانقياذ للتفكير السلطوي، عقل يعيش في كنف السلطة و ينساق لها، ويحي بتوجيهاتها وتعليماتها مادامت وحدة السلطة في الرئيس، وحضوره كفاعل مركزي، ووحيد مستحوذ على القرار، وتكريسه لدى " العامة " ودون استثناء لهذه " اللا قدرة السياسية " . فالكل عاجز والعقل السياسي الصحراوي بسبب هذا العجز يعيش عطالة دائمة في زمن سياسي صحراوي ينتج بامتياز غير مألوف خطابا شعاراتيا ولحظيا يتعامل فيه مع المتلقي الصحراوي باعتباره قاصرا، وليس من حقه مادام لن يبلغ سن الرشد أبدا، أن يكون مشاركا في القرار السياسي الذي يفترض أنه المعني الاول به، ولعل بؤس السياسة هذا هو ما يمكن بدلا من تحويل مثلا " المؤتمرات الشعبية " الى محطات للتداول على السلطة داخل منظومة ديمقراطية رغم أنه كان يفترض ان تسقط مع جدار برلين، بدلا عن ذلك أضحت هذه " المؤتمرات الشعبية " مجرد محطات لإعادة تنصيب الرئيس الفارض نفسه كالموزع الكفء للمنافع والقيم بين كل الاتجاهات القبلية المسيطرة .
لن أخلف الصواب لو أضفت في هذه الورقة أن من سمات تردي الزمن السياسي الصحراوي، هذا التشظي الثقافي والذي بسببه يتم " مهرجنة الثقافة الصحراوية "، وهي وسيلة سياسية لإجبار من جهة المثقف الصحراوي على الاحتماء بالدولة، ومن جهة أخرى إلى إضفاء نوع من الاستقلالية والانفتاح المغريين لكل المثقفين دون التفطن الى عدم تخلي السلطة عن امتيازها في مجال الضبط والمراقبة وهما ما يفقدان في العمق كل منتوج ثقافي هويته واستقلاليته .
لا أود أن يفوتني أيضا التوقف عند التاثيرات المؤيدة والمعادية في هذا الزمن السياسي الصحراوي، فالجزائر الحليف الذي ابتدع مؤخرا قاموسا جديدا راوح بين " تلميحات سعيداني المقلقة "، و" حياد لعمامرة المفاجئ "، دون الافلات من سؤال مصلحة الجزائر في هذا النزاع الذي تحوم حول أحيانا زوابع " حرب الرمال " . وطبعا يظل المغرب الطامع في " ربح الأرض " دون ان ينشغل بربح " قلوب الصحراويين "، يسعى إلى تجميع كل طاقته من أجل إقناع العالم أن " خسارة الصحراء تعني انهيار النظام الملكي بالمغرب، وأن هذا الانهيارلو حصل فإن المتضررالأول هي أوروبا مستشهدا بما حصل في سوريا وليبيا حيث وصل مهاجروا البلدين الى المانيا بعد انهار انظمتهما .. فمابالك لو انهار النظام بالمغرب الذي لا تفصله عن اوروبا سوى 13 كلمتر ووراء كل إفريقيا السوداء ..." . وهل تسعى إسبانيا إلى جعل النزاع في الصحراء " اليد التي تخنق بها المغرب كلما تطلب الامر ذلك سواء تعلق الامر بالسكوت عن سبتة ومليلية أو عن قضايا اخرى برية وبحرية " .. وفرنسا التي ربما تدعم المغرب باعتباره المستعمرة القديمة الوحيدة التي حافظت على اخلاصها للمسعتمر الفرنسي ولم تتحول رغم الاغراءات للقوي الامريكي او البريطاني كما حدث في دول إفريقية كثيرة ... كل هذه التأثيرات وغيرها تجعل الزمن السياسي الصحراوي متقلبا، وفاقدا للقدرة على المقاومة والمناعة، وبالتالي يعيش ضحية " اللا قوة السياسية "، التي تظهر جليا أنه مع إدعاء في اي محطة القرب من تحقيق حلم الاستقلال، تلوح في الأفق بوادر التراجع والهزيمة .
|
التعليقات
لا تعليقات ... كن أول من يعلق
.... التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي الصحيفة