عادة ما أردد أمام الرفاق أني أمارس السياسة ( بالنية ) ، وأن السياسة بالنسبة لي ( بياض ) ، وأما ( لكحال ) ففي نظري نفاق سياسي يلجأ إليه أصحاب النوايا السيئة . لكن حذار فممارسة السياسة ( بالنية ) لا تعني الغباء السياسي ، ولا تعني هذا الاستعداد العفوي لأن نكون ( حميرا للأجيال ) .
السائد أن السياسة هي فن الممكن ، وهذا يتنافى وفهمي للسياسة باعتبارها السعي لتغيير الواقع ، وهذا الفهم يعتمد المغزى الإنساني من ممارسة السياسة منذ عقود والمحدد في تحقيق السعادة والتي نعلم جميعا أن إدراكها صعب المنال ، مادامت شروطها تتغير باستمرار ، فما كان يعتبر أسس السعادة في الأمس القريب أصبح ينظر إليه الآن ناقصا ويمكن قياس ذلك في كل مناحي الحياة .
إن السياسة في نظري هي إمتلاك رؤية للمستقبل من خلالها نسعى إلى بناء واقع جديد على أنقاض واقع مرفوض كليا مادام لا يستجيب وأحلامنا وطموحاتنا وتطلعاتها ، ونعيش فيه مكرهين ومجبرين على تقبل شروطه الاقصائية والتهميشية وما إلى ذلك مما تنتجه السياسة السائدة الساعية إلى تحقيق الممكن …
وأي سياسة متبعة في أي قطر كيفما كان نوعه تعجز عن تغيير الواقع إذا أصيبت أداتها بعطل أيديولوجي ناتج عن قصور خطير حتى لا أقول مرض فتاك ذلك الذي يجعلنا نتعامل مع الأداة السياسية لا باعتبارها ( كيانا سياسيا ) ولكن باعتبارها ( كيانا أخويا أو جيليا ) .. فتصبح الأداة وسيلة لحماية هذه العلاقات بين الرفاق وتمتينها وتقوية أواصرها .. فلا مجال لمحاسبة أحد الرفاق الذين امتلكوا طهر البدايات وقساوة البدايات ومرارة البدايات وهلم جرا .. وعليه تتحول الأداة من كيان سياسي متمكن من أدواته الإيديولوجية تعمل على تحليل الواقع وإنتاج شروط بناء واقع جديد ومغاير إلى كيان رفاقاتي يصدر أزماته إلى المجتمع ويستفيد منها
هذا العطل الإيديولوجي يولد حالة من الارتباك العام قد لا تمس مرحليا الهدف الأساسي ولكنها تصيب في مقتل أشكال التعبير ومظاهرها ، بل تجعل كل الممارسة السياسية مبنية على تثبيت الواقع فمثلا رغم الإجماع الشعبي والوطني على رفض القبلية ، لكنها تستمر في نموها لأنها تتغذى من المساحة الواسعة التي تفرزها أزمة التأويل السياسي ( يقول البعض أن المقصود بنبذ القبلية ليس على التعميم ولكن على التخصيص أي نبذها فقط فيما بين القبائل الممثلة في التنظيم السياسي والحكومي) .. وما كان لمثل هذا التأويل السياسي أن يسود لولا العطل الأيديولوجي الذي استشرى في حياتنا السياسية .
إن العطل الإيديولوجي وباء ينتقل بالضرورة ليصيب الجانب التنظيمي ، والنتيجة حصول عطل خطير أيضا وهو العطل التنظيمي ، وهذا العطل التنظيمي يكتسي خطورة كبيرة وكبيرة جدا انطلاقا من العطل الإيديولوجي ونتيجة له .. وهذه النتيجة هي التي تجبر الجميع على الانكباب الكلي اللا واعي طبعا من اجل الحفاظ على مكونات الأداة التنظيمية الرفاقية والجيلية ( نسبة إلى الجيل ) ، و منحها كل وسائل البروز كنخبة وإشاعتها كرموز وطنية ( معصومة من ألخطأ ) . وبناء عليه يستغل العطل التنظيمي من جهة في توقيف كل آليات إفراز نخب جديدة قد تنافس النخب ( التاريخية والأزلية ) .
العطل التنظيمي حتمي كلما افتقدت الأداة التنظيمية إلى السند المرجعي ودخلت في حالة تيهان لا تبطل مع ذلك تحقيق بعض الانتصارات السياسية التي مع الأسف لا تشكل هزيمة نهائية وحاسمة .. وللمزيد من التفصيل فان العطل التنظيمي يخدم السياسة الحمائية المتبعة والتي مفروض فيها أن تغلق كل القنوات التنظيمية الطبيعية وان تلجأ إلى تشتيت مفتعل للفعل يقوض كل فرص المنافسة ويمنع حدوث مفاجآت قد تزاحم المرسوم وتخلخل القواعد الثابتة.
بالمحصلة فالعطل الإيديولوجي والعطل التنظيمي يؤديان بالضرورة إلى عطل فكري ويبرز ذلك من خلال حالة الجمود والركود التي تصيب الحياة السياسية وتصبح فرص الخروج من هذه العطالة الإجبارية مستحيلة ومفتوحة فقط على خيارين إما خلق ثورة من داخل الثورة أو نفض اليد من التجربة ككل ، لأنه عندما يتعطل الإيديولوجي والتنظيمي والفكري فالأكيد أننا نتجه نحو انتحار سياسي قد تسبقه انتعاشات قوية ولحظات زهو ولكنه كما الأكمة تخفي ما وراءها ..
يقول الفرنسيون :un malheur ne vient jamais seul .
فحذار من المصائب التي تنظرنا . ..
|
التعليقات
لا تعليقات ... كن أول من يعلق
.... التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي الصحيفة